قوله : فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها.
وفي بعض الروايات : وقلبه الذي يعقل به ولسانه الذي ينطق به .
وقال البيهقي في الأربعين الصغرى (1/76) :
وقوله : كنت سمعه الذي يسمع به معناه : حفظ جوارحه عليه عن مواقعة ما يكره وقد يكون معناه - والله أعلم - : كنت أسرع إلى قضاء حوائجه من سمعه فِي الاستماع وبصره فِي النظر ويده فِي اللمس ورجله فِي المشي . اهـ
فهذان قولان والأخير منقول عن بعض الصوفية ومعناه مقبول أيضا.
وجاء في شرح ابن بطال :
وقال بعض الناس : وجه ذلك أنه لا يحرك جارحة من جوارحه إلا فى الله ولله، فجوارحه كلها تعمل بالحق ، فمن كان كذلك لم تُردّ له دعوة . اهـ
وفي فتح الباري ذكر ابن حجر :
أنه على حذف مضاف والتقدير كنت حافظ سمعه الذي يسمع به فلا يسمع إلا ما يحل استماعه وحافظ بصره كذلك .. الخ . اهـ
فخلاصة الأقوال في تفسير ذلك :
أن من يفعل ذلك وهو التقرب إلى الله بالفرائض أصلا والنوافل تبعا ، ينال هداية الله وعصمته من أن يفعل بجوارحه ما حرم الله عز وجل فتكون أعمال جوارحه كلها في طاعة الله بتوفيقه وهدايته وحفظه .
وهذا هو الأقرب لدلالة السياق عليه ، ولأنه وقع في رواية ذكرها ابن تيمية وابن رجب وصححها الألباني : فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي .
وهو عين ما قاله الخطابي : هذه أمثال والمعنى توفيق الله لعبده في الأعمال التي يباشرها بهذه الأعضاء وتيسير المحبة له فيها بأن يحفظ جوارحه عليه ويعصمه عن مواقعة ما يكره الله من الإصغاء إلى اللهو بسمعه ومن النظر إلى ما نهى الله عنه ببصره ومن البطش فيما لا يحل له بيده ومن السعي إلى الباطل برجله. اهـ
وهذا ليس من التأويل في شيء ؛ لأن القاطع الشرعي الوارد في النصوص الصحيحة يقتضي أن الله جل وعلا لا يكون بذاته سمعا ، ولا يكون بذاته بصرا ، ولا يكون بذاته يدا ، ولا يكون بذاته رِجْلا .. الخ
فصح أن يقال عن الحديث هذا التفسير الصحيح الموافق للسياق ..
الرد على أهل الاتحاد والحلول :
وهذا خلاف ما يتوهمه بعض الصوفية من الحلولية والاتحادية ، أن ذلك على حقيقتهم الباطلة في اعتقادهم الفاسد ، وهي أن الله – تعالى عن ذلك وتقدس – يحل بالعبد ويتحد به .
وقد استدلوا على مسألة الحلول ، برواية موضوعة زادوها في هذا الحديث بعد قوله ( ورجلَه التي يمشي بها ) قال ( وحتى يقول للشيء كن فيكون ) وهي زيادة موضوعة كما حققها علماء الحديث قاطبة .
قال ابن رجب الحنبلي :
المراد من هذا الكلام أن من اجتهد بالتقرب إلى الله تعالى بالفرائض ثم بالنوافل قربه إليه ورقاه من درجة الإيمان إلى درجة الإحسان فيصير يعبد الله على الحضور والمراقبة كأنه يراه فيمتلئ قلبه بمعرفة الله تعالى ومحبته وعظمته وخوفه ومهابته وإجلاله والأنس به والشوق إليه حتى يصير هذا الذي في قلبه من المعرفة مشاهدا له بعين البصيرة كما قيل :
ساكن في القلب يعمره ** لست أنساه فأذكره
إن غاب عن سمعي وعن ** بصري فسويد القلب يبصره
ولا يزال هذا الذي في قلوب المحبين المقربين يقوى حتى تمتلئ قلوبهم به فلا يبقي في قلوبهم غيره ولا تستطيع جوارحهم أن تنبعث إلا بموافقة ما في قلوبهم ومن كان حاله هذا قيل فيه ما بقي في قلبه إلا الله والمراد معرفته ومحبته وذكره .
وقال بعض العارفين : احذروه فإنه غيور لا يحب أن يرى في قلب عبده غيره .
وفي هذا المعنى يقول بعضهم :
قد صبغ قلبي على مقدار حبهم ** فما لحب سواهم فيه متسع
فمتي امتلأ القلب بعظمة الله تعالى محا ذلك من القلب كل ما سواه ولم يبق للعبد شيء من نفسه وهواه ولا إرادة إلا لما يريده منه مولاه فحينئذ لا ينطق العبد إلا بذكره ولا يتحرك إلا بأمره فإن نطق نطق بالله وإن سمع سمع به وإن نظر نظر به وإن بطش بطش به فهذا هو المراد بقوله كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها .
ومن أشار إلى غير هذا فإنما يشير إلى الإلحاد من الحلول والاتحاد والله ورسوله بريئان منه ..
ومن هنا كان بعض السلف كسليمان التيمي يقولون : إنه لا يحسن أن يعصى الله .
وأوصت امرأة من السلف أولادها فقالت لهم : تعودوا حب الله وطاعته فإن المتقين ألفوا الطاعة فاستوحشت جوارحهم من غيرها فإن عرض لهم الملعون بمعصية مرت المعصية بهم محتشمة فهم لها منكرون .
ومن هذا المعنى قول على بن أبي طالب : إن كنا نري أن شيطان عمر ليهابه أن يأمره بالخطيئة .
وهذا من أسرار التوحيد الخاص فإن معنى لا إله إلا الله لا يؤله غيره حبا ورجاء وخوفا وطاعة فإذا تحقق القلب بالتوحيد التام لم يبق فيه محبة لغير ما يحبه الله ولا كراهة لغير ما يكرهه الله ومن كان كذلك لم تنبعث جوارحه إلا بطاعة الله وإنما تنشأ الذنوب من محبة ما يكرهه الله أو كراهة ما يحبه الله وذلك ينشأ من تقديم هوي النفس على محبة الله تعالى وخشيته وذلك يقدح في كمال التوحيد الواجب فيقع العبد بسبب ذلك في التفريط في بعض الواجبات وارتكاب بعض المحظورات فإن من تحقق قلبه بتوحيد الله فلا يبقي له هم إلا في الله وفيما يرضيه به ..
قال بعض العارفين : من أخبرك أن لوليه هم في غيره فلا تصدقه .
وكان داود الطائي ينادي بالليل : همك عطل علي الهموم وحال بيني وبين السهاد وشوقي إلى النظر إليك أوبق مني اللذات وحال بيني وبين الشهوات فأنا في سجنك أيها الكريم مطلوب .
وفي هذا المعنى يقول بعضهم :
قالوا تشاغل عنا واصطفي بدلا ** منا وذلك فعل الخائن السالي
وكيف أشغل قلبي عن محبتكم ** بغير ذكركم يا كل أشغالي.
قوله ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه .
وفي رواية أخرى : إن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته .
وقوله ولئن استعاذني : بنون الوقاية وروي بباء موحدة تحتية , أي ( استعاذ بي ) والأول أشهر . والمعنى واحد .
فهاتان علامتان من علامات ولاية الله لمن يكون الله قد أحبه .
وهذا يدل على أن العبد إذا صار من أهل حب الله تعالى لم يمتنع أن يسأل ربه حوائجه ويستعيذ به ممن يخافه ، والله تعالى قادر على أن يعطيه قبل أن يسأله وأن يعيذه قبل أن يستعيذه ، ولكنه سبحانه متقرب إلى عباده بإعطاء السائلين وإعاذة المستعيذين.
يعني أن هذا المحبوب المقرب له عند الله منزلة خاصة تقتضي أنه إذا سأل الله أعطاه شيئا وإذا استعاذ به من شيء أعاذه منه وإن دعاه أجابه فيصير مجاب الدعوة لكرامته على الله تعالى ..
أحوال السلف مجابي الدعوة :
وقد كان كثير من السلف الصالح معروفا بإجابة الدعوة ..
وفي الصحيح أن الربيع بنت النضر كسرت ثنية جارية فعرضوا عليهم الأرش فأبوا فطلبوا منهم العفو فأبوا فقضي بينهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالقصاص فقال أنس ابن النضر أتكسر ثنية الربيع والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها فرضي القوم وأخذوا الأرش فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره .
وفي صحيح الحاكم عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :
كم من ضعيف متضاعف ذي طمرين لو أقسم على الله لأبره منهم البراء بن مالك .
وإن البراء لقي زخفا من المشركين فقال له المسلمون اقسم على ربك فقال أقسمت عليك يارب لما منحتنا أكتافهم فمنحهم أكتافهم ..
ثم التقوا مرة أخرى فقالوا اقسم على ربك فقال أقسمت عليك يارب لما منحتنا أكتافهم وألحقني بنبيك صلى الله عليه وسلم فمنحوا أكتافهم وقتل البراء .
وعن أبي الدنيا بإسناد له أن النعمان بن نوفل قال يوم أحد :
اللهم إني أقسم عليك أن أقتل فأدخل الجنة فقتل فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إن النعمان أقسم على الله فأبره .
وروى أبو نعيم بإسناده عن سعيد أن عبد الله بن جحش قال يوم أحد :
يارب إذا لقيت العدو غدا فلقني رجلا شديدا بأسه شديدا حرده أقاتله فيك ويقتلني ثم يأخذني فيجدع أنفي وأذني فإذا لقيتك غدا قلت يا عبد الله من جدع أنفك وأذنك؟ فأقول فيك وفي رسولك فتقول صدقت ..
قال سعيد : لقد لقيته آخر النهار وإن أنفه وأذنه لمعلقتان في خيط .
رواه الحاكم والبيهقي والطبراني وصححه الهيثمي .
وكان سعد ابن أبي وقاص مجاب الدعوة فكذب عليه رجل فقال اللهم إن كان كاذبا فاعم بصره وأطل عمره وعرضه للفتن فأصاب الرجل ذلك كله فكان يتعرض للجواري في السكك ويقول شيخ كبير مفتون أصابتني دعوة سعد .
ودعا علي رجل سمعه يشتم عليا فما برح من مكانه حتى جاء بعير ناد فخبطه بيديه ورجليه حتى قتله .
ونازعته امرأة سعيد بن زيد في أرض له فادعت أنه أخذ منها أرضها فقال اللهم إن كانت كاذبة فاعم بصرها واقتلها في أرضها فعميت فبينما هي ذات ليلة تمشي في أرضها إذ وقعت في بئر فيها فماتت .
وكان العلاء بن الحضرمي في سرية فعطشوا فصلي ثم قال اللهم يا عليم يا حكيم يا علي يا عظيم إنا عبيدك وفي سبيلك نقاتل عدوك فاسقنا غيثا نشرب منه ونتوضأ ولا تجعل لأحد فيه نصيبا غيرنا فساروا قليلا فوجدوا نهرا من ماء السماء يتدفق فشربوا وملأوا أوعيتهم ثم ساروا فرجع بعض أصحابه إلى موضع النهر فلم ير شيئا وكأنه لم يكن في موضعه ماء قط .
وشكا أنس بن مالك عطش أرضه في البصرة فتوضأ وخرج إلى البرية وصلي ركعتين ودعا فجاء المطر وسقا أرضه ولم يجاوز المطر أرضه إلا يسيرا .
واحترقت خصاص بالبصرة في زمن أبي موسي الأشعري وبقي في وسطها خص لم يحترق فقال أبو موسي لصاحب الخص ما بال خصك لم يحترق ؟ فقال إني أقسمت على ربي أن لا يحرقه فقال أبو موسي إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول في أمتي رجال طلس رؤوسهم دنس ثيابهم لو أقسموا على الله لأبرهم .
الكاتب: mr_ashraf30 wWw.ElAbKaRiNo.YoO7.CoM